فصل: خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل سؤال النبي عليه السلام عن سعد بن الربيع أهو حي أم ميت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وفرغ الناس لقتلاهم فحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، أخو بني النجار‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رجل من الأنصار‏:‏ أنا، فنظر فوجده جريحاً في القتلى وبه رمق‏.‏

قال‏:‏ فقال له‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات‏؟‏

فقال‏:‏ أنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي وقل له‏:‏ إن سعد بن الربيع يقول لك‏:‏ جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك الأنصار عني السلام وقل لهم‏:‏ إن سعد بن الربيع يقول لكم‏:‏ إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف‏.‏

قال‏:‏ ثم لم أبرح حتى مات، وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره‏.‏

قلت‏:‏ كان الرجل الذي التمس سعداً في القتلى‏:‏ محمد بن سلمة فيما ذكره محمد بن عمر الواقدي، وذكر أنه ناداه مرتين فلم يجبه، فلما قال‏:‏ إن رسول الله أمرني أن أنظر خبرك أجابه بصوت ضعيف وذكره‏.‏

وقال الشيخ أبو عمر في ‏(‏الاستيعاب‏)‏‏:‏ كان الرجل الذي التمس سعداً أبي كعب، فالله أعلم‏.‏

وكان سعد بن الربيع من النقباء ليلة العقبة رضي الله عنه، وهو الذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثّل به فجدع أنفه وأذناه، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى ما رأى‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع، وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم‏)‏‏)‏‏.‏

فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا‏:‏ والله لئن أظفرنا الله بهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 45‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب، وحدثني من لا أتهم عن ابن عباس‏:‏ أن الله أنزل في ذلك‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏

قال‏:‏ فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر، ونهى عن المثلة‏.‏

قلت‏:‏ هذه الآية مكية، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين فكيف يلتئم هذا، فالله أعلم‏؟‏

قال‏:‏ وحدثني حميد الطويل، عن الحسن، عن سمرة بن جندب قال‏:‏ ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه، حتى يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لن أصاب بمثلك أبداً، ما وقفت قط موقفاً أغيظ إلي من هذا‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع‏:‏ حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وكان حمزة وأبو سلمة بن عبد الأسد أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتهم ثلاثتهم‏:‏ ثويبة مولاة أبي لهب‏.‏

الصلاة على حمزة وقتلى أحد

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة، فسجي ببردة، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة‏.‏

وهذا غريب وسنده ضعيف‏.‏

قال السهيلي‏:‏ ولم يقل به أحد من علماء الأمصار‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن ابن مسعود قال‏:‏ إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم‏}

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 46‏)‏

فلما خلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة - سبعة من الأنصار واثنين من قريش وهو عاشرهم - فلما رهقوه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رحم الله رجلاً ردهم عنا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏ فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أنصفنا أصحابنا‏)‏‏)‏ فجاء أبو سفيان فقال‏:‏ اعل هبل‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا الله أعلى وأجل‏)‏‏)‏ فقالوا‏:‏ الله أعلى وأجل‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ لنا العزى ولا عزى لكم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا‏:‏ الله مولانا ولا مولى لكم‏)‏‏)‏

ثم قال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون‏)‏‏)‏

قال أبو سفيان‏:‏ قد كانت في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرني‏.‏

قال‏:‏ فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أأكلت شيئاً ‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه، فرفع الأنصاري وترك حمزة، وجيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة‏.‏

تفرد به أحمد وهذا إسناد فيه ضعف أيضاً من جهة عطاء بن السائب، فالله أعلم‏.‏

والذي رواه البخاري أثبت حيث قال‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أيهم أكثر أخذاً للقرآن ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة‏)‏‏)‏ وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا‏.‏

تفرد به البخاري دون مسلم، ورواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد - يعني ابن جعفر - حدثنا شعبة، سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري، عن ابن جابر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة‏)‏‏)‏ ولم يصل عليهم‏.‏

وثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير، كما قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا زكريا بن عدي، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال‏:‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 47‏)‏

ثم طلع المنبر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث يزيد بن أبي حبيب به نحوه‏.‏

وقال الأموي‏:‏ حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبي ثابت قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ خرجنا من السحر مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، نستطلع الخبر، حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول‏:‏

لبّث قليلاً يشهد الهيجا حمل

قال‏:‏ فنظرنا فإذا أسيد بن حضير، ثم مكثنا بعد ذلك، فإذا بعير قد أقبل عليه امرأة بين وسقين قالت‏:‏ فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح، فقلنا لها‏:‏ ما الخبر ‏؟‏

قالت‏:‏ دفع الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذ من المؤمنين شهداء، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً‏.‏

ثم قالت لبعيرها‏:‏ حل، ثم نزلت فقلنا لها‏:‏ ما هذا ‏؟‏

قالت‏:‏ أخي وزوجي‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه، وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام‏:‏ ألقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها‏.‏

فقال لها‏:‏ يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي‏.‏

قالت‏:‏ ولم‏؟‏ وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله، فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خلِّ سبيلها‏)‏‏)‏ فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن، ودفن معه ابن أخته عبد الله بن جحش، وأمه أميمة بنت عبد المطلب، وكان قد مثل به غير أنه لم ينقر عن كبده رضي الله عنهما‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وكان يقال له المجدع في الله‏.‏

قال‏:‏ وذكر سعد أنه هو وعبد الله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيبت لهما، فدعا سعد أن يلقى فارساً من المشركين فيقتله ويستلبه فكان ذلك، ودعا عبد الله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله ويجدع أنفه في الله فكان ذلك‏.‏

وذكر الزبير بن بكار‏:‏ أن سيفه يومئذ انقطع فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجوناً، فصار في يد عبد الله بن حجش سيفاً يقاتل به، ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار، وهذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر‏.‏

وقد تقدم في صحيح البخاري أيضاً‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، بل في الكفن الواحد، وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد، ويقدم في اللحد أكثرهما أخذاً للقرآن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 48‏)‏

وكان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد، كما جمع بين عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وبين عمرو بن الجموح لأنهما كانا متصاحبين ولم يغسلوا، بل تركهم بجراحهم ودمائهم‏.‏

كما روى ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن القتلى يوم أحد قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والريح ريح مسك‏)‏‏)‏

قال‏:‏ وحدثني عمي موسى بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من جريح يجرح في الله، إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى اللون لون الدم، والريح ريح المسك‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادفنوهم بدمائهم وثيابهم‏)‏‏)‏

رواه أبو داود، وابن ماجه من حديث علي بن عاصم به‏.‏

وقال الإمام أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ حدثنا القعنبي أن سليمان بن المغيرة حدثهم، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر أنه قال‏:‏ جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا‏:‏ قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد‏)‏‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله فأيهم يقدم ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أكثرهم قرأناً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه من حديث الثوري عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر فذكره، وزاد‏:‏ ‏(‏‏(‏وأعمقوا‏)‏‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادفنوهم حيث صرعوا‏)‏‏)‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله، وعتاب، حدثنا عبد الله، حدثنا عمر بن سلمة بن أبي يزيد المديني، حدثني أبي، سمعت جابر بن عبد الله يقول‏:‏ استشهد أبي بأحد فأرسلني إخواني إليه بناضح لهن فقلن‏:‏ اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بني سلمة‏.‏

فقال‏:‏ فجئته وأعوان لي فبلغ ذلك نبي الله، وهو جالس بأحد فدعاني فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته‏)‏‏)‏ فدفن مع أصحابه بأحد، تفرد به أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن قتلى أحد حملوا من مكانهم، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 49‏)‏

وقد رواه أبو داود، والنسائي، من حديث الثوري، والترمذي، من حديث شعبة والنسائي أيضاً، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينه، كلهم عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين يقاتلهم، وقال لي أبي عبد الله‏:‏ يا جابر لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما مصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي‏.‏

قال‏:‏ فبينا أنا في النظارين، إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي‏:‏ ألا إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعناها بهما فدفناهما حيث قتلا‏.‏

فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال‏:‏ يا جابر بن عبد الله، والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدأ فخرج طائفة منه، فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل‏.‏

ثم ساق الإمام قصة وفائه دين أبيه كما هو ثابت في الصحيحين‏.‏

وروى البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة استصرخناهم إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دماً‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق، عن جابر قال‏:‏ فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس‏.‏

وذكر الواقدي‏:‏ أن معاوية لما أراد أن يجري العين نادى مناديه‏:‏ من كان له قتيل بأحد فليشهد‏.‏

قال جابر‏:‏ فحفرنا عنهم، فوجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته وما تغير من حاله قليل ولا كثير، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دماً‏.‏

ويقال‏:‏ إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضي الله عنهم أجمعين، وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا حسين المعلم، عن عطاء، عن جابر قال‏:‏ لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال لي‏:‏ ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن علي ديناً فاقض، واستوص بأخواتك خيراً‏.‏

فأصبحنا وكان أول قتيل، فدفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته هيئته غير أذنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 50‏)‏

وثبت في الصحيحين‏:‏ من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أنه لما قتل أبوه جعل يكشف عن الثوب ويبكي، فنهاه الناس فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏تبكيه أو لا تبكيه لم تزل الملائكة تظله حتى رفعتموه‏)‏‏)‏ وفي رواية أن عمته هي الباكية‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا‏:‏ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا فيض بن وثيق البصري، حدثنا أبو عبادة الأنصاري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر‏:‏ ‏(‏‏(‏يا جابر ألا أبشرك ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ بلى بشرك الله بالخير‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أشعرت أن الله أحيا أباك فقال‏:‏ تمن عليّ عبدي ما شئت أعطكه‏.‏ قال‏:‏ يا رب عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقتل مع نبيك، وأقتل فيك مرة أخرى، قال‏:‏ إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ حدثنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الإسفرايني، حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد، حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر، حدثنا علي بن المديني، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري قال‏:‏

سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ثم السلمي قال‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله قال‏:‏ نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي أراك مهتماً ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله قتل أبي وترك ديناً وعيالاً، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أخبرك ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً وقال له‏:‏ يا عبدي سلني أعطك‏.‏ فقال‏:‏ أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال‏:‏ إنه قد سبق مني القول إنهم إليها لا يرجعون، قال‏:‏ يا رب فأبلغ من ورائي‏)‏‏)‏

فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن محمد بن عقيل سمعت جابراً يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أبشرك يا جابر ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله، ثم قال له‏:‏ ما تحب يا عبد الله ما تحب أن أفعل بك‏؟‏ قال‏:‏ أي رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه أحمد، عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن ابن عقيل، عن جابر، وزاد فقال الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 51‏)‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن عبد الله، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر أصحاب أحد‏:‏ ‏(‏‏(‏أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابه بحضن الجبل‏)‏‏)‏ يعني سفح الجبل‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقد روى البيهقي من حديث عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه فدعا له، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب‏.‏ وروي عن عبيد بن عمير مرسلاً‏.‏

وروى البيهقي من حديث موسى بن يعقوب، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب قال‏:‏ ‏(‏‏(‏السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏)‏‏)‏‏.‏

ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله‏.‏

قال الواقدي‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورهم كل حول، فإذا بلغ نقرة الشعب يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏)‏‏)‏ ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول، ثم عمر، ثم عثمان، وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتيهم فتبكي عندهم وتدعو لهم‏.‏

وكان سعد يسلم ثم يقبل على أصحابه فيقول‏:‏ ألا تسلمون على قوم يردون عليكم‏.‏

ثم حكى زيارتهم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأم سلمة رضي الله عنهم‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني إبراهيم، حدثني الحكم بن نافع، حدثنا العطاف بن خالد، حدثتني خالتي قالت‏:‏ ركبت يوماً إلى قبور الشهداء - وكانت لا تزال تأتيهم - فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلي، وما في الوادي داع ولا مجيب إلا غلاماً قائماً آخذا برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدي‏:‏ السلام عليكم‏.‏

قالت‏:‏ فسمعت رد السلام علي يخرج من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله عز وجل خلقني، وكما أعرف الليل والنهار، فاقشعرت كل شعرة مني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏4/ 52‏)‏

وقال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا‏:‏ من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد‏؟‏ فقال الله عز وجل‏:‏ أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏‏)‏‏)‏‏.‏

وروى مسلم والبيهقي من حديث أبي معاوية، عن الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال‏:‏ سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ فقال‏:‏ أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك إطلاعة فقال‏:‏ اسألوني ما شئتم، فقالوا‏:‏ يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا قالوا‏:‏ نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك مرة أخرى، قال‏:‏ فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا‏)‏‏)‏‏.‏

فصل في عدد الشهداء

قال موسى بن عقبة‏:‏ جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين والأنصار تسعة وأربعون رجلاً‏.‏

وقد ثبت في الحديث الصحيح عن البخاري عن البراء أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلاً، فالله أعلم‏.‏

وقال قتادة، عن أنس‏:‏ قتل من الأنصار يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون‏.‏

وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أنه كان يقول‏:‏ قارب السبعين يوم أحد، ويوم بئر معونة، ويوم مؤتة ويوم اليمامة‏.‏

وقال مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب‏:‏ قتل من الأنصار يوم أحد ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيد سبعون، وهكذا قال عكرمة وعروة والزهري، ومحمد بن إسحاق في قتلى أحد، ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا‏}‏ يعني أنهم قتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 53‏)‏

وعن ابن إسحاق‏:‏ قتل من الأنصار - لعله من المسلمين - يوم أحد خمسة وستون‏:‏ أربعة من المهاجرين‏:‏ حمزة، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، والباقون من الأنصار‏.‏ وسرد أسماءهم على قبائلهم‏.‏

وقد استدرك عليه ابن هشام زيادة على ذلك خمسة آخرين فصاروا سبعين، على قول ابن هشام‏.‏

وسرد ابن إسحاق أسماء الذين قتلوا من المشركين، وهم اثنان وعشرون رجلاً‏.‏

وعن عروة‏:‏ كان الشهداء يوم أحد أربعة أو قال سبعة وأربعين‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ تسعة وأربعون، وقتل من المشركين يومئذ ستة عشر رجلاً، وقال عروة‏:‏ تسعة عشر، وقال ابن إسحاق‏:‏ اثنان وعشرون، وقال الربيع، عن الشافعي‏:‏ ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي، وقد كان في الأسارى يوم بدر فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فدية، واشترط عليه ألا يقاتله‏.‏

فلما أسر يوم أحد قال‏:‏ يا محمد أمنن عليّ لبناتي وأعاهد أن لا أقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمداً مرتين‏)‏‏)‏ ثم أمر به فضربت عنقه‏.‏

وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل نعي رسول الله لحمنة بنت جحش أخيها وخالها وزوجها يوم أحد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لي، فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن زوج المرأة منها لبمكان‏)‏‏)‏ لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها‏.‏

وقد قال ابن ماجه‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدثنا عبد الله بن عمر، عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جحش، عن أبيه، عن حمنة بنت جحش‏:‏ أنه قيل لها قتل أخوك، فقالت‏:‏ رحمه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

فقالوا‏:‏ قتل زوجك‏.‏

قالت‏:‏ واحزناه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 54‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل، عن محمد عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

قالوا‏:‏ خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين‏.‏

قالت‏:‏ أرونيه حتى أنظر إليه‏.‏

قال‏:‏ فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت‏:‏ كل مصيبة بعدك جلل‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ الجلل يكون من القليل والكثير، وهو ههنا القليل‏.‏

قال امرؤ القيس‏:‏

لقتل بني أسد ربهم * ألا كل شيء خلاه جلل

أي‏:‏ صغير وقليل‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، ناول سيفه ابنته فاطمة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اغسلي عن هذا دمه يا بنيه، فوالله لقد صدقني في هذا اليوم‏)‏‏)‏ وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال‏:‏ وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لئن كنت صدقت القتال، لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال موسى بن عقبة في موضع آخر‏:‏ ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف علي مخضباً بالدماء قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف‏)‏‏)‏

وروى البيهقي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ جاء علي بن أبي طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة‏:‏ هاك السيف حميداً فإنها قد شفتني‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لئن كنت أجدت الضرب بسيفك، لقد أجاده سهل بن حنيف، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو ذو الفقار‏.‏

قال‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم، عن ابن أبي نجيح قال‏:‏ نادى مناد يوم أحد‏:‏ لا سيف إلا ذو الفقار‏.‏

قال‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي‏:‏ لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح علينا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار بني عبد الأشهل، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لكن حمزة لا بواكي له‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 55‏)‏

فلما رجع سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهن أن يتحزمن، ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن بعض رجال بني عبد الأشهل قال‏:‏ لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة، خرج عليهن وهن في باب المسجد يبكين فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن النوح فيما قال ابن هشام‏.‏

وهذا الذي ذكره منقطع ومنه مرسل، وقد أسنده الإمام أحمد فقال‏:‏ حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أسامة بن زيد، حدثني نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من أحد، فجعل نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ولكن حمزة لا بواكي له‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم نام فاستنبه وهن يبكين، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة‏)‏‏)‏‏.‏ وهذا على شرط مسلم‏.‏

وقد رواه ابن ماجه، عن هارون بن سعيد، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لكن حمزة لا بواكي له‏)‏‏)‏‏.‏

فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويحهن ما انقلبن بعد مرورهن، فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزقة المدينة، إذا النوح والبكاء في الدور، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لكن حمزة لا بواكي له‏)‏‏)‏ واستغفر له فسمع ذلك سعد بن معاذ بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية كانت بالمدينة فقالوا‏:‏ والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة، وزعموا أن الذي جاء بالنوائح عبد الله بن رواحة‏.‏

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏ فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم فاستغفر لهم، وقال لهم خيراً، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا أردت وما أحب البكاء‏)‏‏)‏ ونهى عنه‏.‏

وهكذا ذكر ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير سواء قال موسى بن عقبة‏:‏ وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحزين المسلمين، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل وقالت اليهود‏:‏ لو كان نبياً ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه‏.‏

وقال المنافقون مثل قولهم، وقالوا للمسلمين‏:‏ لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذين أصابوا منكم، فأنزل الله القرآن في طاعة من أطاع، ونفاق من نافق، وتعزية المسلمين يعني فيمن قتل منهم، فقال‏:‏ ‏{‏وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات كلها كما تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 56‏)‏

 خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح في أثر أبي سفيان

قال موسى بن عقبة بعد اقتصاصه وقعة أحد، وذكره رجوعه عليه السلام إلى المدينة‏:‏ وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أبي سفيان وأصحابه فقال‏:‏ نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض‏:‏ لم تصنعوا شيئاً أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبتروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم‏.‏

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبهم أشد القرح -بطلب العدو ليسمعوا بذلك وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال‏)‏‏)‏ فقال عبد الله بن أبي‏:‏ أنا راكب معك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

فاستجابوا لله ولرسوله على الذي بهم من البلاء فانطلقوا‏.‏

فقال الله في كتابه‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 172‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر حين ذكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على أخواته‏.‏

قال‏:‏ وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو حتى بلغ حمراء الأسد‏.‏

وهكذا روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير سواء‏.‏

وقال محمد بن إسحاق في ‏(‏مغازيه‏)‏‏:‏ وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه ألا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله فأذن له‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم‏.‏

قال ابن إسحاق - رحمه الله -‏:‏ فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلاً من بني عبد الأشهل قال‏:‏ شهدت أحداً أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي‏:‏ أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال - فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وقد كان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 57‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر أن معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً كان بها، ومعبد يومئذ مشرك مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بحمراء الأسد فقال‏:‏

يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ابن حرب، ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا‏:‏ أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم، فلنفرغن منهم‏.‏

فلما رأى أبو سفيان معبداً قال‏:‏ ما وراءك يا معبد ‏؟‏

قال‏:‏ محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرَ مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقاً، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط‏.‏

قال‏:‏ ويلك ما تقول ‏؟‏

قال‏:‏ والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل‏.‏

قال‏:‏ فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم‏.‏

قال‏:‏ فإني أنهاك عن ذلك، ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتاً من شعر‏.‏

قال‏:‏ وما قلت ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏

كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردى بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل

فظلت عدوا أظن الأرض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول

فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل

إني نذير لأهل البسل ضاحية * لكل ذي أربة منهم ومعقول

من جيش أحمد لا وخش قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال‏:‏ أين تريدون ‏؟‏

قالوا‏:‏ المدينة‏.‏

قال‏:‏ ولم ‏؟‏

قالوا‏:‏ نريد الميرة‏.‏

قال‏:‏ فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم‏.‏

فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏)‏‏)‏‏.‏ وكذا قال الحسن البصري‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال‏:‏ حدثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏ تفرد بروايته البخاري‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 58‏)‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم‏}‏ قالت لعروة‏:‏

يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير، وأبو بكر رضي الله عنهما، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا فقال‏:‏ من يذهب في إثرهم‏؟‏

فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير‏.‏ هكذا رواه البخاري‏.‏

وقد رواه مسلم مختصراً من وجه عن هشام‏.‏

وهكذا رواه سعيد بن منصور، وأبو بكر الحميدي جميعاً عن سفيان بن عيينة‏.‏

وأخرجه ابن ماجه من طريقه عن هشام بن عروة به‏.‏

ورواه الحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏ من طريق أبي سعيد عن هشام بن عروة به‏.‏

ورواه من حديث السدي عن عروة، وقال‏:‏ في كل منهما صحيح، ولم يخرجاه‏.‏ كذا قال‏.‏

وهذا السياق غريب جداً فإن المشهور عند أصحاب ‏(‏المغازي‏)‏ أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد كل من شهد أحداً، وكانوا سبعمائة كما تقدم، قُتل منهم سبعون، وبقي الباقون‏.‏

وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون في ذي القعدة المدينة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة‏.‏

وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المسلمين القرح، واشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهم الذي أصابهم‏.‏

وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا بهم، ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال لنا‏:‏ ترتحلون الآن فتأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام قابل‏.‏

فجاء الشيطان يخوف أولياءه، فقال‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال‏:‏ إني ذاهب، وإن لم يتبعني أحد، فانتدب معه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة، وابن مسعود، وحذيفة في سبعين رجلاً‏.‏

فساروا في طلب أبي سفيان حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم‏}‏ وهذا غريب أيضاً‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ حدثنا أبو عبيدة‏:‏ أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد أراد الرجوع إلى المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية‏:‏ لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا فرجعوا‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، حين بلغه أنهم همُّوا بالرجعة‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لقد سُوّمت لهم حجارة، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ذلك، قبل رجوعه المدينة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس جد عبد الملك بن مروان لأمه عائشة بنت معاوية، وأبا عزة الجمحي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 59‏)‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسره ببدر، ثم منَّ عليه فقال‏:‏ يا رسول الله أقلني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها و تقول خدعت محمداً مرتين، اضرب عنقه يا زبير‏)‏‏)‏ فضرب عنقه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ بلغني عن ابن المسيب أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت‏)‏‏)‏ فضرب عنقه‏.‏

وذكر ابن هشام أن معاوية بن المغيرة بن أبي العاص استأمن له عثمان على أن لا يقيم بعد ثلاث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ستجدانه في مكان كذا وكذا فاقتلاه‏)‏‏)‏ ففعلا رضي الله عنهما‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان عبد الله بن أبيّ كما حدثني الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر، له شرفاً في نفسه وفي قومه، وكان فيه شريفاً، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس، قام فقال‏:‏

أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا‏.‏ ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس، قام يفعل ذلك كما كان يفعله‏.‏

فأخذ المسلمون ثيابه من نواحيه، وقالوا‏:‏ اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول‏:‏ والله لكأنما قلت بجُراً، أن قمت أشدد أمره‏.‏

فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا‏:‏ ويلك مالك‏؟‏ قال‏:‏ قمت أشدد أمره، فوثب إلي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني، لكأنما قلت بجراً أن قمت أشدد أمره، قالوا‏:‏ ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ والله ما أبغي أن يستغفر لي‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل من القرآن في قصة أحد من سورة آل عمران عند قوله‏:‏ ‏{‏وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم‏}‏ قال إلى تمام ستين آية‏.‏

وتكلم عليها، وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير بما فيه الكفاية‏.‏

ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد وتعدادهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم على قبائلهم، كما جرت عادته فذكر من المهاجرين أربعة‏:‏ حمزة، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان رضي الله عنهم، ومن الأنصار إلى تمام خمسة وستين رجلاً‏.‏

واستدرك عليه ابن هشام خمسة أخرى فصاروا سبعين على قول ابن هشام‏.‏

ثم سمى ابن إسحاق من قُتل من المشركين، وهم‏:‏ اثنان وعشرون رجلاً على قبائلهم أيضاً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 60‏)‏

قلت‏:‏ ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي، كما ذكره الشافعي وغيره، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً بين يديه أمر الزبير - ويقال عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح - فضرب عنقه‏.‏

 فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الأشعار

وإنما نورد شعر الكفار لنذكر جوابها من شعر الإسلام، ليكون أبلغ في وقعها من الأسماع والأفهام، وأقطع لشبهة الكفرة الطغام‏.‏

قال الإمام محمد بن إسحاق - رحمه الله -‏:‏ وكان مما قيل من الشعر يوم أحد قول هبيرة بن أبي وهب المخزومي، وهو على دين قومه من قريش فقال‏:‏

ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقني * بالود من هند إذ تعدو عواديها

باتت تعاتبني هندٌ وتعذلني * والحربُ قد شَغلت عني مواليها

مهلاً فلا تعذليني إن من خُلُقي * ما قد علمتِ وما إن لستُ أُخفيها

مساعفٌ لبني كعبٍ بما كلفوا * حمال عبءٍ وأثقال أعانيها

وقد حملتُ سلاحي فوق مُشترفٍ * ساطٍ سبوحٍ إذا يجري يباريها

كأنه إذ جرى عَيرٌ بفدفدةٍ * مكدّمٌ لاحقٌ بالعون يحميها

من آل أعوجَ يرتاح النديُّ له * كجذع شعراءَ مستعلٍ مراقيها

أعددته ورقاقَ الحدّ منتخِلاً * ومارناً لخطوبٍ قد ألاقيها

هذا وبيضاءُ مثلُ النُّهيِ محكمةٌ * لظَّت عليَّ فما تبدو مساويها

سُقْنا كنانة من أطراف ذي يمَنٍ * عرضَ البلادِ على ما كان يزجيها

قالت كنانةُ أنى تذهبون بنا * قلنا‏:‏ النخيل فأموها ومن فيها

نحن الفوارس يوم الجرّ من أحد * هابتْ معدٌّ فقلنا نحن نأتيها

هابوا ضراباً وطعناً صادقاً خذِماً * مما يرون وقد ضُمَّت قواصيها

ثمتَّ رحنا كأنا عارض برد * وقام هام بني النجار يبكيها

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 61‏)‏

كأن هامهم عند الوغى فلقٌ * من قيضِ ربدٍ نفتْه عن أداحيها

أو حنظلٌ ذعذعته الريحُ في غصن * بالٍ تعاوَرُه منها سوافيها

قد نبذل المالَ سحاً لا حساب له * ونطعنُ الخيل شزراً في مآقيها

وليلةٍ يصطلي بالفرث جازرُها * يختص بالنَّقَرى المثرين داعيها

وليلةٍ من جمادى ذات أندية * جرباً جمُاديةٍ قد بتُّ أسريها

لا ينبحُ الكلب فيها غيرَ واحدةٍ * من القَريس ولا تسري أفاعيها

أوقدت فيها لذي الضراء جاحمةً * كالبرق ذاكيةَ الأركان أحميها

أورثني ذلكم عمروٌ ووالده * من قبله كان بالمشتى يُغاليها

كانوا يُبارونَ أنواء النجوم فما * دنت عن السَوْرة العَليا مساعيها

قال ابن إسحاق‏:‏ فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال‏:‏ قال ابن هشام‏:‏ وتروى لكعب بن مالك وغيره‏.‏

قلت‏:‏ وقول ابن إسحاق أشهر وأكثر، والله أعلم‏:‏

سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم * إلى الرسول فجندُ الله مخزيها

أوردتموها حياضَ الموت ضاحيةً * فالنار موعدُها والقتل لاقيها

جمعتموهم أحابيشاً بلا حسب * أئمة الكفرِ غرَّتكم طواغيها

ألا اعتبرتم بخيلِ الله إذ قتلت * أهل القليب ومن ألقيتَه فيها

كم من أسير فككناهُ بلا ثمنٍ * وجزِّ ناصيةٍ كنا مواليها

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبي وهب المخزومي أيضاً‏:‏

ألا هل أتى غسان عنا ودونهم * من الأرض خرقٌ سيرُهُ متنعنع

صحارى و أعلام كأنّ قتامها * من البعدِ نقعٌ هامدً متقطع

تظل به البُزْلُ العراميس رُزَّحاً * ويحلو به غيثُ السنين فيمرع

به جيفُ الحسرى يلوحُ صَليها * كما لاح كَتّان التِّجار الموضع

به العين والآرام يمشين خُلفةً * وبيض نعام قيضُه يتقلّع

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 62‏)‏

مجالدنا عن ديننا كل فخمةٍ * مذرَّبةٍ فيها القوانس تلمع

وكلُّ صموتٍ في الصِّوان كأنها * إذا لبست نهي من الماء مُترع

ولكن ببدرٍ سائلوا من لقيتمُ * من الناس والأنباءُ بالغيب تنفع

وأنا بأرض الخوف لو كان أهلها * سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا

إذا جاء منا راكبٌ كان قولُه * أعِدّوا لما يزجي ابنُ حربٍ ويجمع

فمهما يهمُّ الناس مما يكيدنا * فنحن له من سائر الناس أوسع

فلو غيرُنا كانت جميعاً تكيدُه * البرِيَّة قد أعطوا يداً وتوزَّعوا

نُجالد لا تبقى علينا قبيلةٌ * من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا

ولما ابتنوا بالعِرضِ قالت سراتنا * علام إذا لم نمنع العرض نزرع

وفينا رسول الله نتبع أمره * إذا قال فينا القول لا نتظلع

تدلى عليه الروح من عند ربه * ينزَّل من جوّ السماء ويُرفع

نشاوره فيما نريد وقصرُنا * إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع

وقال رسول الله لما بدوا لنا * ذروا عنكمُ هول المنيّات وأطعموا

وكونوا كمن يشري الحياة تقرُّباً * إلى ملك يحيا لديه ويُرجَع

ولكن خُذوا أسيافكم وتوكلوا * على الله إن الأمر لله أجمع

فسرنا إليهم جهرةً في رحالهم * ضُحيّا علينا البيضُ لا نتخشع

بملمومةٍ فيها السنوَّر والقَنا * إذا ضربوا أقدامها لا تورّع

فجئنا إلى موجٍ من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومُقنَّع

ثلاثة آلاف ونحن نصيَّة * ثلاث مئين إن كثرنا فأربع

نغاورهم تجري المنية بيننا * نشارعهم حوض المنايا ونشرع

تهادي قسي النبع فينا وفيهم * وما هو إلا اليثربي المقطع

ومنجوفة حرمية صاعدية * يذر عليها السم ساعة تصنع

تصوب بأبدان الرجال وتارة * تمر بأعراض البِصَار تُقعقع

وخيل تراها بالفضاء كأنها * جراد صبا في قرة يتريع

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 63‏)‏

فلما تلاقينا ودارت بنا الرحا * وليس لأمر حمه الله مدفع

ضربناهم حتى تركنا سراتهم * كأنهم بالقاع خشب مصرع

لدن غدوة حتى استفقنا عشية * كأن ذُكانا حر نار تلفع

وراحوا سراعاً موجعين كأنهم * جهام هراقت ماءه الريح مقلع

ورحنا وأخرانا بطاء كأننا * أسود على لحم ببشة ضُلّع

فنلنا ونال القوم منا وربما * فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع

ودارت رحانا واستدارت رحاهم * وقد جعلوا كل من الشر يشبع

ونحن أناس لا نرى القتل سبة * على كل من يحمي الذمار ويمنع

جلاد على ريب الحوادث لا نرى * على هالك عينا لنا الدهر تدمع

بنو الحرب لا نعيا بشيء نقوله * ولا نحن مما جرت الحرب نجزع

بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش * ولا نحن من أظفارنا نتوجع

وكنا شهابا يتقي الناس حره * ويُفرِج عنه من يليه ويسفع

فخرت علي ابن الزِّبَعْري وقد سرى * لكم طلب من آخر الليل متبع

فسل عنك في عليا معد وغيرها * من الناس من أخزى مقاما وأشنع

ومن هو لم يترك له الحرب مفخرا * ومن خده يوم الكريهة أضرع

شددنا بحول الله والنصر شدة * عليكم وأطراف الأسنة شرع

تكر القنا فيكم كأن فروعها * عزالى مزاد ماؤها يتهزع

عمدنا إلى أهل اللواء ومن يَطِر * بذكر اللواء فهو في الحمد أسرع

فحانوا وقد أعطوا يداً وتخاذلوا * أبى الله إلا أمره وهو أصنع

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد وهو يومئذ مشرك بعد‏:‏

يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئاً قد فعل

إن للخير وللشر مدى * وكلا ذلك وجه وقبل

والعطيات خساس بينهم * وسواء قبر مثر ومقل

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 64‏)‏

كل عيش ونعيم زائل * وبنات الدهر يلعبن بكل

أبلغا حسان عني آية * فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترت ورجل

وسرابيل حسان سريت * عن كماة أهلكوا في المنتزل

كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل

صادق النجدة قِرْم بارع * غير ملتاث لدى وقع الأسل

فسل المهراس ما ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل

ثم خفوا عن ذاكم رقصا * رقص الحفان يعلو في الجبل

فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل

لا ألوم النفس إلا أننا * لو كررنا لفعلنا المفتعل

بسيوف الهند تعلو هامهم * عَلَلاً تعلوهم بعد نهل

قال ابن إسحاق‏:‏ فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

ذهبت بابن الزبعري وقعة * كان منا الفضل فيها لو عدل

ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحياناً دُول

نضع الأسياف في أكتافكم * حيث نهوى عَللاً بعد نهَل

نخرج الأصبح من أستاهكم * كسلاح النِّيب يأكلن العصل

إذ تولون على أعقابكم * هرباً في الشعب أشباه الرِسَل

إذ شددنا شدة صادقة * فاجأناكم إلى سفح الجبل

بخناطيل كأشداق الملا * من يلاقوه من الناس يهل

ضاق عنا الشِّعب إذ نجزعه * وملأنا الفرط منه والرجل

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 65‏)‏

برجال لستم أمثالهم * أيدوا جبريل نصرا فنزل

وعلونا يوم بدر بالتقى * طاعة الله وتصديق الرسل

وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاج رفل

وتركنا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديث المثل

ورسول الله حقاً شاهداً * يوم بدر والتنابيل الهبل

في قريش من جموع جمعوا * مثل ما يجمع في الخصب الهمل

نحن لا أمثالكم وُلْد آستِها * نحضر البأس إذا البأس نزل

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال كعب يبكي حمزة ومن قتل من المسلمين يوم أحد رضي الله عنهم‏:‏

نشجت وهل لك من منشج * وكنت متى تدكر تلجج

تذكر قوم أتاني لهم * أحاديث في الزمن الأعوج

فقلبك من ذكرهم خافق * من الشوق والحزن المنضج

وقتلاهم في جنان النعيم * كرام المداخل والمخرج

بما صبروا تحت ظل اللواء * لواء الرسول بذي الأضوج

غداة أجابت بأسيافها * جميعاً بنو الأوس والخزرج

وأشياع أحمد إذ شايعوا * على الحق ذي النور والمنهج

فما برحوا يضربون الكماة * ويمضون في القسطل المرهج

كذلك حتى دعاهم مليك * إلى جنة دوحة المولج

وكلهم مات حر البلاء * على ملة الله لم يحرج

كحمزة لما وفى صادقاً * بذي هبة صارم سلجج

فلاقاه عبد بني نوفل * يبربر كالجمل الأدعج

فأوجره حربة كالشهاب * تلهب في اللهب الموهج

ونعمان أوفى بميثاقه * وحنظلة الخير لم يحُنج

عن الحق حتى غدت روحه * إلى منزل فاخر الزبرج

أولئك لا من ثوى منكم * من النار في الدرك المرتج

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 66‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة ومن أصيب من المسلمين يوم أحد، وهي على روي قصيدة أمية بن أبي الصلت في قتلى المشركين يوم بدر‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ومن أهل العلم بالشعر من ينكر هذه لحسان والله أعلم‏:‏

يا ميُّ قومي فاندبي بسحيرة شجو النوائح * كالحاملات الوقر بالثقل الملحات الدوالح

المعولات الخامشات وجوه حرات صحائح * وكأن سيل دموعها الأنصاب تخضب بالذبائح

ينقضن أشعاراً لهن هناك بادية المسائح * وكأنها أذناب خيل بالضحى شمس روامح

من بين مشرور ومجزور يذعذع بالبوارح * يبكين شجو مسَّلبات كدحتهن الكوادح

ولقد أصاب قلوبها مجل له جلب قوارح * إذ أقصد الحدثان من كنا نرجي إذ نشايح

أصحاب أحد غالهم دهر ألم له جوارح * من كان فارسنا وحامينا إذا بعث المسالح

يا حمزُ لا والله لا أنساك ما صرَّ اللقائح * لمناخ أيتام وأضياف وأرملة تلامح

ولما ينوب الدهر في حرب لحرب وهي لافح * يا فارساً يا مدرهاً يا حمز قد كنت المصامح

عنا شديدات الخطوب إذا ينوب لهن فادح * ذكرتني أسد الرسول وذاك مدرهنا المنافح

عنا وكان يعد إذ عد الشريفون الجحاجح * يعلو القماقم جهرة سبط اليدين أغر واضح

لا طائش رعش ولا ذو علة بالحمل آنح * بحر فليس يغب جاراً منه سَيْبُ أو منادح

أودى شباب إلى الحفائظ والثقيلون المراجح * المطعمون إذا المشاتي ما يصفقهن ناضح

لحم الجلاد وفوقه من شحمه شطب شرائح * ليدافعوا عن جارهم ما رأم ذو الضغن المكاشح

لهفي لشبان رُزئناهم كأنهم المصابح * شم بطارقة غطارفة خضارمة مسامح

المشترون الحمد بالأموال أن الحمد رابح * والجامزون بلجمهم يوماً إذا ما صاح صائح

من كان يرمي بالنواقر من زمان غير صالح * ما أن تزال ركابه يرسمن في غبر صحاصح

راحت تَبارى وهو في ركب صدورهم رواشح * حتى تؤوب له المعالي ليس من فوز السفائح

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 67‏)‏

يا حمز قد أوحدتني كالعود شذبه الكوافح * أشكو إليك وفوقك الترب المكور والصفائح

من جندل يلقيه فوقك إذ أجاد الضرح ضارح * في واسع يحشونه بالترب سوته المماسح

فعزاؤنا أنا نقول وقولنا برح بوارح * من كان أمسى وهو عما أوقع الحدثان جانح

فليأتنا فلتبك عيناه لهلكانا النوافح * القائلين الفاعلين ذوي السماحة والممادح

من لا يزال ندى يديه له طوال الدهر مائح

قال ابن هشام‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال كعب بن مالك يبكي حمزة وأصحابه‏:‏

طرقت همومك فالرقاد مسهَّد * وجزعت أن سلخ الشباب الأغيد

ودعت فؤادك للهوى ضمرية * فهواك غوري وصحوك منجد

فدع التمادي في الغواية سادراً * قد كنت في طلب الغواية تفند

ولقد أتى لك أن تناهى طائعاً * أو تستفيق إذا نهاك المرشد

ولقد هُددتُ لفقد حمزة هدة * ظلت بنات الجوف منها ترعد

ولو أنه فجعت حراء بمثله * لرأيت رأسي صخرها يتبدد

قِرم تمكن في ذؤابة هاشم * حيث النبوة والندى والسؤدد

والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت * ريح يكاد الماء منها يجمد

والتارك القِرنَ الكميَّ مجدلاً * يوم الكريهة والقنا يتقصد

وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذو لِبدة شَثن البراثن أربد

عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك المورد

وأتى المنية معلماً في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهد

ولقد إخال بذاك هنداً بشرت * لتميت داخل غصة لا تبرد

مما صبحنا بالعقنقل قومها * يوماً تغيب فيه عنها الأسعد

وببئر بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد

حتى رأيت لدى النبي سراتهم * قسمين نقتل من نشاء ونطرد

فأقام بالعطن المعطن منهم * سبعون عتبة منهم والأسود

وابن المغيرة قد ضربنا ضربة * فوق الوريد لها رشاش مزبد

وأمية الجمحي قوم مَيْلَه * عضب بأيدي المؤمنين مهند

فأتاك فل المشركين كأنهم * والخيل والخليل تثفنهم نعام شرد

شتان من هو في جهنم ثاوياً * أبداً ومن هو في الجنان مخلد

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 68‏)‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة وأصحابه يوم أحد‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ وأنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك، فالله أعلم‏:‏

بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغني البكاء ولا العويل

على أسد الإله غداة قالوا * أحمزةُ ذاكم الرجل القتيل

أصيب المسلمون به جميعاً * هناك وقد أصيب به الرسول

أبا يعلى لك الأركان هدت * وأنت الماجد البر الوصول

عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول

ألا يا هاشم الأخيار صبراً * فكل فعالكم حسن جميل

رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول

ألا من مبلغ عني لؤياً * فبعد اليوم دائلة تدول

وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفى الغليل

نسيتم ضربنا بقليب بدر * غداة أتاكم الموت العجيل

غداة ثوى أبو جهل صريعاً * عليه الطير حائمة تجول

وعتبة وابنه خرّا جميعاً * وشيبة عضه السيف الصقيل

ومتركنا أمية مجلعبا * وفي حيزومه لدن نبيل

وهام بني ربيعة سائلوها * ففي أسيافنا منها فلول

ألا يا هند فابكي لا تملي * فأنت الواله العبرى الهبول

ألا يا هند لا تبدي شماتاً * بحمزة إن عزكم ذليل

قال ابن إسحاق‏:‏ وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب، وهي أم الزبير عمة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين‏:‏

أسائلة أصحاب أحد مخافة * بنات أبي من أعجم وخبير

فقال الخبير إن حمزة قد ثوى * وزير رسول الله خير وزير

دعاه إله الحق ذو العرش دعوة * إلى جنة يحيا بها وسرور

فذاك ما كنا نرجي ونرتجي * لحمزة يوم الحشر خير مصير

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 69‏)‏

فوالله لا أنساك ما هبت الصبا * بكاء وحزناً محضري ومسيري

على أسد الله الذي كان مِدرها * يذود عن الإسلام كل كفور

فياليت شلوي عند ذاك وأعظمي * لدى أضبع تعتادني ونسور

أقول وقد أعلى النعي عشيرتي * جزى الله خيراً من أخ ونصير

قال ابن إسحاق‏:‏ وقالت نُعم، امرأة شماس بن عثمان تبكي زوجها، والله أعلم، ولله الحمد والمنة‏:‏

يا عين جودي بفيض غير إبساس * على كريم من الفتيان لباس

صعب البديهة ميمون نقيبته * حمّال ألوية ركاب أفراس

أقول لما أتى الناعي له جزعاً * أودى الجواد وأودى المطعم الكاسي

وقلت لما خلت منه مجالسه * لا يبعد الله منا قرب شماس

قال فأجابها أخوها أبو الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال‏:‏

اقني حياءك في ستر وفي كرم * فإنما كان شماس من الناس

لا تقتلي النفس إذ حانت منيته * في طاعة الله يوم الروع والباس

قد كان حمزة ليث الله فاصطبري * فذاق يومئذ من كأس شماس

وقالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين رجعوا من أحد‏:‏

رجعت وفي نفسي بلابل جمّـة * وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي

من أصحاب بدر من قريش وغيرهم * بني هاشم منهم ومن أهل يثرب

ولكنني قد نلت شيئاً ولم يكن * كما كنت أرجو في مسيري ومركبي

وقد أورد ابن إسحاق في هذا أشعاراً كثيرة، تركنا كثيراً منها خشية الإطالة وخوف الملالة، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد‏.‏

وقد أورد الأموي في ‏(‏مغازيه‏)‏ من الأشعار أكثر مما ذكره ابن إسحاق كما جرت عادته، ولا سيما ههنا فمن ذلك ما ذكره لحسان بن ثابت أنه قال‏:‏ أنه قال في غزوة أحد فالله أعلم‏:‏

طاوعوا الشيطان إذ أخزاهم * فاستبان الخزي فيهم والفشل

حين صاحوا صيحة واحدة * مع أبي سفيان قالوا اعل هبل

فأجبناهم جميعاً كلنا * ربنا الرحمن أعلى وأجَلّ

أثبتوا تستعملوها مرة * من حياض الموت والموت نهل

واعلموا أنا إذا ما نُضَحُتْ * عن خيال الموت قِدْر تشتعل

وكأن هذه الأبيات قطعة من جوابه لعبد الله بن الزبعري والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 70‏)‏